المطلب الأول: علاقة الخيال بالصورة الفنية.
إنَّ العلاقة بين الخيال والصورة هي علاقة بين الروح والجسد، فلا يمكن للصورة الفنية أن تكتسب قيمتها وفنيَّتها ، وتأخذ حجمها الطبيعي إلاَّ إذا لبست ثوب الخيال ، فالخيال هو المَلَكَةُ التي تُوجِدُ الصورة الفنية ، وهي التي تساهم في خلق الصورة ، وإخراجها للعلن بشكل طبيعي ،لأنَّ الخيال من أبرز القوى الذِّهنية ،إضافةً لكونه شعور وجداني غامض، يقول الشاعر شاكر الغزي:
أُغنيتي
رفرفةُ جناحين يُحلِّقانِ بك نحو أحلامك
تحملُ قلبك نحو عالمٍ لا يُرى
ولا يسكنهُ إلاَّكَ
تلمعُ لك في أعالي السَّماء
كنجمةٍ مُشفقةٍ
لتنير دربكَ في عتمةِ الخُطى( )
ومن هنا نلاحظ كيف تتجلى عبقرية الخيال ببعده الوجداني ، الذي يتكون داخل نفس المتلقي من خلال تشكيل صورة ذهنية للصور المكتوبة .
فالخيال له تأثير عميق في بنية الصورة الفنية ، فهي كما يقول كولريدج: " ليست إلا تعبيرًا عن حالةٍ نفسيةٍ مُعيّنةٍ يعاينها الشاعرُ إزاءَ موقفٍ معيّن من مواقفه مع الحياة"( )
ويقسم كولريدج الخيال إلى نوعين :
• خيال أولي : وهو ضروري لمعرفة النفس ، لأنه القوة الأولى للإدراك الإنساني.
• وخيال ثانوي: وهو صدى للخيال الأول ومتطابق معه بالرغم من الاختلاف عنه في الدرجة ، وفي طريقة عمله. ( )
يتبين مما سبق أنَّ الخيال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بغيره من قوى النفس ، وله صلة بجميع الحواس ، كما أنّ له صلة ببقية عناصر العملية الشعرية من موسيقى ولغة وعاطفة .( )
وللصور الخيالية دَورٌ لا يبارَى في التلذذ بذوق الشعر؛ ذلك أن الخيال يفتح الآفاق أمام النفس البشرية، فلا تشعر بالملل من الوجود جراء ما ترى من مفرداته كل يوم وكل ساعة، بل كل لحظة على ذات النحو دون تغيير أو تجديد، فيأتي الخيال ليعوِّضَها عما حُرِمتْه من التجديد. يقول الشاعر شاكر الغزي:
ينبتُ الماءُ في شفاهكَ
حُزناً سرمدياً ...
يخضرُّ منه الحريق
ربَّما ضاعت الحقوق
ولكنَّ حُسيناً
به تصان الحقوقُ( )
يقول الفيلسوف الألماني" كانط" الذي بفضله تم تحقيق أعظم وأكبر تحول في مفهوم الخيال في العصر الحديث:" إنَّ الخيال أجلُّ قوى الإنسان ، وإنه لا غنى لأية قوة أخرى من قوى الإنسان عن الخيال."( )
فالقيمة التي أعطاها كانط للخيال وجدنا مثلها عند محي الدين بن عربي ، فهو أساس لجميع القوى ، وإنَّ النفس لا تكون مدركة إلاَّ بسبب الخيال لأنه هو الوسيط بين النفس التي هي من عالم الغيب ، وبين الحس الذي هو من عالم الشهادة" ( )
إن قوى التخيل الإبداعية قوى منشطة للعمل الفني، وباعثة لتجاوزه، وخرقه الأسلوبي، وهذا لن يتحقق بتمامه، وكماله، بمعزل عن العاطفة، وحيوية منشطها الإبداعي، ومن أجل ذلك، يمكن أن نؤكد مقولة بغاية الأهمية ألا وهي: إن الفن عاطفة إبداع وإنشاء.
إن العلاقة بين الصورة والخيال هي عالقة انتماء والتحقق والإنجاز , ليصبح بذلك الخيال عالم الصورة المبتكرة والخيال الشعري , حينما يبدع الصورة الشعرية ويخترعها , إنما هو في هذه الحالة ينتقل من
التخيل الاسترجاعي الذي يبنى على تذكرة الصورة الماضية , إلى التخيل الإبداعي أو الاختراعي الذي يؤسس صور شعرية جديدة لتجاوز كل ما هو معطى ونمطي إلى كل ما هو جديد ومتفر( )، يقول الشاعر شاكر الغزي:
كتبتْ عليها
عيدُ ميلادي غداً
أوقد شموعَ الكبر في خيلائي
ستكون حفلة عمرنا
وسنلتقي
وجهين أتعبنا انتظار لقاء
كزليخةٍ سأغيظهنَّ
اخرجْ عليهمَّ
الْتهِمْ لأصابعِ الحنَّاءِ( )
وإذا كان الخيال عنصراً من عناصر الشِّعر، يمنح الشَّاعر قدرةً على التصرّف في المعاني وانتزاع الصّور منها، ما يجعله أكثر تأثيراً في نفس المتلقِّي، ولذلك كانت العاطفة شرطاً لازماً من شروط الشِّعر بدونها يفقد شعريّته يقول الشاعر شاكر الغزي :
والمتتبع لعلاقة الخيال بالصورة يرى أن الخيال ليس فقط صورة عن الواقع بل هو الواقع مضافٌ إليه كيانٌ نفسي وواقع فني ، وهذا ماوجدناه في شعر شاكر الغزي:
والخيال هو باعث وموجه للتفكير، وهو غذاء الأسلوب، لذلك جاء بأساليب متنوعة ، ومتعددة يقول الشاعر شاكر الغزي:
قربانَ أخطاءِ الزَّمان
وأمَّة أمويَّة
لم ترع فيه محمَّده
وضحية الإصلاح
في زمن به
قد خرَّقت ثوب الصلاح المفسدة ( )
ولكن العلاقة الهامة والخطيرة تلك التي نجدها بين الخيال والعاطفة ، ذلك لأنَّ الوحدة في القصيدة الشعرية هي وحدة العاطفة أو وحدة الخيال.
غير أنَّ الخيال التي لا تذكيه عاطفة حارة وشعور حي وقوي لا يمكن أن يسعف الشاعر في خلق قصيدة شعرية جيدة، يقول :
منذُ الطفولة في دمي متجذرٌ
كالسِّحرِ
في عقد الخلايا ينفثُ
حبُّ الحسينِ أجنَّ عايش قبلنا
وجنونه ، جيلٌ لآخر يورث
أفواهك زعمتْ ستطفئ نوره
واللهُ شاء يُتمُّهُ ...لا تعبثوا( )
وبقدر ما تكون الصورة الخيالية جديدةً غير مذالة من كثرة الاستعمال تكون طازجةً ناضرةً، فمن شأن كثرة الاستعمال أن تقتل ما في الصورة من حيوية وقدرة على الإشعاع والإيحاء، كذلك ينبغي أن تصيب الصورةُ المعنى المرادَ، وألا تسلمك كل ما فيها، أو لا تسلمك دفعةً واحدة، وإلا كانت صورةً مسطحةً قصيرة العمر، لا تخاطب منك إلا حواسك دون أن تكون لها أغوار، يقول الشاعر:
وحيٌ...يُلُحُّ عليَّ أن أتنبأَ
اقرأ..!
فأحمدُ ليس آخر من رأى
اقرأ...
وربُّكَ زارع اللاءات رفضاً
علَّمَ الإنسان أن يتجرأ
وهكذا فالخيال له الدور الكبير في إبداع الصورة الشعرية ويعدُّ " دي لويس" أن أي تصور صائب للصورة الشعرية لا بد أن يقوم على نظرية محددة ودقيقة في الخيال ( )
فإذا كان الواقع هو أساس الخيال، فالخيال هو أحد أهم أساسيات الصورة الإبداعية لدى الشاعر، فهو يؤسس للصورة الفنية لدى الشاعر، والمتلقي يتلقى الصورة فتؤسس له الخيال الذي كان موجوداً عند الشاعر أو حتى خيال مختلف.
والمتمعن في أي صورة فنية داخل أي نصِّ شعري لابدَّ من أن يمنحه هذا التصوير القدرة على التخيل ، والذي أطلق عليه في الدراسات المعاصرة المجاز ، حيث يمكن للمجاز من تحقيق الصورة الذِّهنية المتخيلة القائمة على انعكاس النص الذي بين أيدينا داخل الفكر المتخيَّل، وربَّما ارتبط هذا الأمر بما يمكن تسميته بالصدق الفني، فكلما كانت الصورة المتخيلة مطابقة للواقع، كانت أكثر تأثيرًا في النفس والوجدان وأكثرَ رسوخًا في ذات المتلقّي.
فالخيال كأي قدرة ذهنيَّة أو نفسية لا يستطيع العلم أن يحددها بتجاربه ومعاييره ، ولكن بفضل ما حاول النقاد معرفته لهذه الكلمة نستطيع أن نفهم المراد منها والاقتراب من معناها ، كما قال أحدهم:" أن نعرفها في آثارها".( )
والخيال هو القوة أو الملكة الذَّاتية التي يتمكن الفنان بواسطتها أن يبدع شيئاً جديداً، ولسنا نعني بالشيء الجديد المادة التي تشغل حيزاً في الوجود (أي الشيء المادي) ، وإنما هو معنى ذهني أو صورة وجدانية ، أو أي نتاج فني يستمتع به الشعور و يتملاه الحس والوجدان.( ) يقول:
اقرأْ....
وربُّكَ غيمةٌ ملكوتها
أغرى بقافلةِ العروج
فقرأتُ أسفار العذاب،
وكلَّ ما
ألقى بروعي من اساي
وأملأ( )
ومن النُّقاد من يرى أنّ الخيال يتنوع على حسب العمل الأدبي الذي يبدعه الأديب ، فهو يختلف من عمل إلى آخر حسب طبيعة العمل الأدبي ، فهو في الرواية غير المسرحية، وفي النَّص الشعري غيره في النَّص الغنائي، وهو في الأخير يختلف ن التصويري الذي هدفه رسم الحقائق الخارجية عن الوجداني الذي يصوِّر تأثير هذه الحقائق على الوجدان.( )
وللخيال أسباب وعوامل لا يرتقي إلاَّ عليها منها:
- قوة العاطفة وصدقها : وهي التي تهب للخيال الطاقة في اكتشاف الصور والمشاركة الوجدانية للطبيعة .فقوة الخيال تقاس بقدرته على التعبير عن هذه العاطفة في صدق وقوة وجمال. ( ) يقول:
وقضتْ بأن تُسبى نِساهُ
ورأسهُ يعلو الرماح
وصدرهُ أن يوطأ
وقضت لزينب شهقتةً
فأهابها
أن تجزع الصبر الجميل
وتهدأ
مازال تنعته السماء بثأرها
ولأخذه ادخرت ظُيىً لن تصدأ( )
- انطلاق الخيال وتأثيره في جمال الفنون : وهي التي توسع المساحة أمام المبدعين، وتفسح لكلمتهم الطريق ، فالاستبداد والظلم والكبت والخجل كل ذلك أورٌ حريٌّ بها أن توصد أبواب الأدب، وتحول بينها وبين بزوغ الكلمة على أفواه الشعراء وأقلام الناثرين.( ) يقول:
في هدأة
قد لا تكون...وقد تكون
الرَّبُّ تُثقلهُ الديون
فيعبُّ خمرته دماً
في قحف جمجمة صغيرة
زُنارُهُ متماوجٌ الألوان ( )
- كثرة المكتسبات الحسية والذهنيَّة وغزارتها: وهو من أهم العوامل، بل هو من أساس الخيال ومنبعه فللخيال عناصر ومواد يعتمد عليها الأديب في عملية الإبداع ولاريب أن هذه العناصر تكون من الواقع ومهمة الفنان هنا التحليل والتركيب ، والتعظيم والتحقير، والتقديم والتأخير. ( )، يقول:
ركزوا له بين اثنتين
وظنَّهم
أن سوف ينحرُ خطوهُ
أهدى لمئذنة الأسنة
رأسه تكبيرةٌ...!
كي لا يراه مطأطأ ( )
إنَّ حقيقة الخيال الشعري تظهر بوضوح فيما يقدمه الشاعر من صور شعرية تكون قادرة ليس فقط على النفاذ إلى نفس المتلقي ، والتأثير فيه، بل قادرة على تمكينه من رؤية الأشياء غير المألف مألوفة، والأشياء المفككة موحدة ، تلك فاعلية الخيال الشعري حينما يوحدُ بين المادي والحسي، والفكري والمعنوي ، ويذيب الحدود المصطنعة بينهما فيناغم الحس مع الفكر دون أن يفضله أو يتميز عنه."( )
فالخيال الشعري دائما يظهر كقوة موحدة ومركبة ( )، يلاشي ويحطم لكي يخلق من جديد ( ). إنّ التخييل الشعري عند حازم القرطاجني هو أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها أو تصور أي شيء آخر بها .( )
إنَّ الخيال الشعري هو الملَكَة التي تشكلُّ صور القصيدة، وتصل ما بينهما في عمل أدبي ( )، فأكبر في اللغة الأدبية، تكمن في اختلافها عن اللغة العادية، وتعود العلة في ذلك إلى اعتماد لغة المجاز مع الارتكاز على خصيصة "الخيال"، فكان أن اعتبرت اللغة الأدبية كسراً للنمطية سواء على مستوى الشعر، أو على مستوى النثر الفني.( )
ومع كل هذا الزخم من الأفكار لتبيان علاقة الخيال بالصورة الفنية، يمكن القول : إنَّ أيّ مفهوم للصورة الشعرية لا يمكن أن يقوم إلاَّ على أساس مكين من مفهوم متماسك للخيال الشعري نفسه، فالصورة هي أداة الخيال ووسيلته ومادته الهامة التي يمارس فيها ومن خلالها فاعليته ونشاطه. ( ) يقول:
خرجتْ ومعولُ حُزنها
في الخدِّ يحرث ذاهلاً ترنيمة الأم الحزينة
رفعت يداها بابتهال
تسألُ القدوس أن يرضى
فعتباه القرابين السمينة: ( )