تمثل الصورة أهمية كبيرة في الدراسات القديمة والحديثة، لأنها تعد ركناً مهماً من أركان الشعر يستند إليه النص في منح الأفكار أبعاداً شكلية من التصوير وكأن ما يقصده المنشئ ماثل أمامك.
ولعلَّ اختلاف النقاد في تحديد مفهوم الصورة الفنية يجعل من الصعوبة بمكان الوقوف على تعريف جامع وشامل ومتكامل لهذا المصطلح . وتعامل النقاد مع الصورة الفنية باعتبارها نوعاً من أنواع البلاغة التي هي بمثابة انتقال أو تجوّز في الدلالة لعلاقة مشابهة، أو لعلاقة تناسب متعددة الأركان البلاغية .
لقد كان للصورة الشعرية عناية خاصة من قبل النقاد العرب، فمنهم من يراها في شكل العمل الأدبي، ومنهم من يراها تكمن في المضمون ، وبعضهم يراها تكمن في النظم ، وبالتالي كلٌّ يراها من زاويته الخاصة . ومن هنا تعددت الآراء والتعريفات ، وتعددت المفاهيم للصورة .
• الصورة الفنية قديماً:
يعتبر الشعر العربي القديم غني بالصور الفنية المتقنة الدقيقة التي صورت الحياة في الشعر القديم ، ورسمت ملامح الجمال عندهم ، فكان لهم طابعهم المميز في تصوير الأشياء والتعبير عنها .حيث تطرق كثير من النقاد لمصطلح الصورة .
لم تخرج الصورة في المعاجم القديمة عن مفهوم الشكل أو الهيأة، فعرَّفها ابن فارس بأنها: (صورة كل مخلوق والجمع صٌوّر وهي هيأة خلقته) ( )، أمَّا ابن منظور فقد صرَّفها على هذا النحو بقوله: وهو الذي صور جميع الموجودات ورتبها فأعطى كل شيء منها صورة خاصة، وهيأة مفردة يتميز بها على اختلافها وكثرتها.
والباحث لمفهوم الصورة في التراث النقدي القديم لا يمكنه تجاوز مفهوم الصورة عند الجاحظ ، والذي كانت الإشارة الأولى لمفهوم الصورة قد اطلقت من عنده عندما قال في حديثه عن اللفظ والمعنى :" والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العحمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ
وسهولة المخرج... فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير" .( )
وفي حديثه هنا فضَّل اللفظ على المعنى ، وحدد عملية بناء النص الأدبي وخلقه وإبداعه ، فالمعاني عنده معروفة لدى الجميع مهما اختلفت أجناسهم وطبائعهم وشؤونهم .
وقد تابع قدامة بن جعفر الجاحظ في تحديده لمفهوم الصورة بالقول:" إن المعاني كلها معروضة للشاعر، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة كما يوجد في كل صناعة من أنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة منها، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة"( )
إن عمل الشاعر في هذه الحالة يصٌبح بالنسبة إلى قدامة صناعة كباق الصناعات مع فارق وحيد هو أن الشاعر ، الذي يصنع الشعر يشتغل على المعاني بينما النجار والصائغ يعملان في مادة الخشب والفضة. وواضح من كلام قدامة أيضاً أنه يهتم بصياغة المعاني اهتماماً كبيراً ويراها أساس الجمال الأدبي.
وهنا يكمن تركيز ابن جعفر على المعنى من خلال تقسيمه للشعر إلى (لفظ ووزن ومعنى وقافية) وقال: على الشاعر أن ينسق مادته في منهج واضح فيجعل اللفظ مناسباً للمعنى الذي يقصده.
أمَّا الصورة عند ابن طباطبا فهي تعني التشابه والاختلاف في الجوهر والعكس صحيح ، يقول: " وربما أشبه الشيء بالشيء صورة وخالفه معنى وربما أشبهه معنى وخالفه صورة" ( )
ومفهوم الصورة الفنية عند عبد القاهر الجرجاني يمتاز بالدقة والوضوح يقول في مفهوم الصورة :" إن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وإن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار"( ) ، وهو هنا يشير إلى انصهار اللفظ بالمعنى ليكونا الصورة وبناءً عليه تكون صنعتَ معنىً جديداً له قيمته الجمالية وأثره في المتلقي .
والجرجاني يستند في ذلك إلى دوافع نفسية ، وجوانب ذوقية وحسيَّة ، إضافة لاعتمادها على الذاكرة اعتماداً كبيراً، ويركز على أهمية المشاهدات ،أي ما نراه بأبصارنا، أو ما نراه في المحسوسات أو الماديات أو ما هو مخزن في ذاكرتنا . فالصورة هي مزيج من هذه العناصر المذكورة .
وإذا أخذنا بالاعتبار نضح الرأي الذي تحدث عنه الجرجاني حول مفهوم الصورة قياساً لأقرانه من النقاد والبلاغيين العرب، فإنَّ هذا لا يعني أنه اهتدى إلى مفهوم كامل متكامل عن طبيعة الصورة على نحو ما وصل إليه النقد الحديث.
ويشعر الجرجاني بالخطوة الجديدة التي يضيفها إلى مفهوم الصورة ودور العقل في تشكيلها ، فيلفت الانتباه إلى أنَّ مفهوم الصورة قديم أشار إليه الجاحظ، "ولكن الفرق بين الجرجاني والجاحظ في مفهوم الصورة هو أنَّ الجاحظ يعتبر الشعر ضرباً من التصوير، بينما الجرجاني يعتبر الشعر تصويراً كله لأن التصوير عند الجرجاني هو الهيئة التي تتشكل فيها المعاني حقيقة أو مجازاً" ( )
لكن حازم القرطاجني كان فهمه للصورة مختلف بعض الشيء : " ومحصول الأقاويل الشعرية تصوير الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثيلها في الأذهان من حسن وقبح حقيقة أو على غير ما هو عليه تمويها وايهاما" ( )، فهو هنا يشترط عدم الذهاب في الخيال بعيداً ، إذ يربطه بالعقل .
كما حدد مفهوم الشعر أيضاً بقوله: " الشِّعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه ما قصد تكريهه إليها".( )
وبذلك يكون القرطاجني أعطى مفهوماً جديداً للصورة من خلال الشمولية ، فمفهومها عنده لا يقتصر على الشكل واللفظ فقط، ولا المعنى على حساب اللفظ ، بل الصورة تشمل ترابطاً وتكاثفاً وانسجاماً حقيقياً بين أجزاء الصورة .
وقد حدد ت عناصر الصورة " بالحجم، والموقع، والشكل، واللون، والطعم، والحركة، والرائحة..."( )
وتستمر جهود النّقاد القدماء في إبراز أهمية الصورة ، ودورها في التأثير في المتلقي.
فقد تحدث عنها أبو هــــــلال العسكــــــــري بالقول: " إنَّ التَّصـــــــور لا يثبت على حال، وإذا ثبت على حال لم يكن تخيـــــــلاً "( ).
وترد لفظة صورة في كلامه وهو بصدد تحديد البلاغة عندما يقول: " البلاغة كل ما تبلغ به المنى قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن" ( )
من خلال هذا التعريف يعتبر العسكري الصورة شرطاً أساسياً لنجاح الشكل الشعري لأنَّ دورها يقوم على تجميل المعنى وتحسينه . لكنه لم يشرح لنا كيف يمكن أن تكون الصورة، مقبولة ولا العبارة مستحسنة وإنما اكتفى بالوصف المجمل دون تفصيل أو تعليل.
وممن تعرضوا لمفهوم الصورة ابن خلدون في حديثه عن المعاني والشعر ، حيث ركز على اللغة كونها موجودة عند الناس جميعاً، ولكن طريقة التوظيف والترتيب تختلف من واحد لآخر حسب الإبداع والابتكار والقدرة على وضع هذه اللغة في قوالب تناسب المعنى يقول:" "فالمعاني موجودة عند كل واحدٍ وفي طوع كل فكرة منها ما يشاء ويرضي، وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلنا وهو القوالب للمعاني.... كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبارها تطبيقه على المقاصد والمعاني واحدة في نفسها" ( )
وهكذا كانت الصورة قديماً معياراً للمفاضلة بين الشعراء ، لأنَّ الصورة تدخل في صميم الشعر ، ويختلف استخدامها من شاعر لآخر تبعاً لاختلاف القدرة والتجربة ، والحالة النفسية للشاعر.
حيث كانت الصورة من " أهم خصائص الشعر القديم، وتعتبر من جوهر العملية الشعرية وليست زخرفاً خارجاً" ( )
ولابدَّ من ذكر مدلول الصورة بالقرآن الكريم ، حيث وردت (ص و ر) في آيات الذكر الحكيم ستة مرات ، مرتين بصيغة الماضي ( صَوَّركم)لقوله تعالى:(( اللهُ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً والسمَاءَ بِنَاءً وَ صَوّ رَكُمْ ...))( )
وقوله تعالى:(( وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ اِبْلِیسَ لَمْ یَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِین)).( )
ومرة بصيغة المضارع( يُصَوِّرُكُم) في قوله تعالى:(( ھُوَ الذِي یُصَوِّ رُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَیْفَ یَشَاءُ لاَ إلَه إِ لاَّ ھُوَ العَزِیزُ الحَكِیمُ ))( ).
ومرَّة بصيغة الفاعل( المصَوَّرُ)، كما في قوله : ((ھُوَ للهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى یُسَبحُ لَهُ ما فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَ ھُوَ اَلْعَزِیزُ اَلْحَكِیم)) .( )
ومرَّ بصيغة الجمع( صوركم) ، ومرة بصيغة المفرد:( صورة) ...الخ .
• الصورة الفنية حديثاً:
اختلف مفهوم الصُّورة عند النقاد المحدثين اختلافاً كبيراً عمَّا كان عليه عند النقاد القدامى؛ وذلك انسجاماً مع المستجدات الحضارية والثقافية التي نتجت عن امتزاج الثقافات وتنافس الحضارات ورقيها. فالصورة الفنية هي ابنة الواقع التاريخي والحضاري .
ولذلك تباينت آراء المحدثين في فهم الصورة ، فبعضهم حدد فهمه للصورة على أساس:
• ماهيتها ( ): فإنتاج الصورة الأدبية يأتي من خلال التحام المعاني المترجمة بألفاظ في ذهن الشاعر .
• ومنهم على أساس دلالتها ( ):فالصورة على هذا الأساس هي أسلوب تعبيري ودلالي له القدرة في التأثير والتمييز بين صورة واخرى للمعنى نفسه.
• ومنهم على أساس وظيفتها( ) : فالصورة هنا تخرج من الحيز التداولي المألوف إلى فضاء أوسع وأرحب يمتد بحسب طاقات التعبير وسعته.
فغاية الصورة حديثاً إحداث أثرٍ في نفس المتلقي ، وترك انطباعات معينة فيه بما تحمله من شحنات عاطفية، وفي ذلك يقول زكي مبارك :" "أثر الشاعر المفلق الذي يصف "المرئيات" وصفاً ويجعل قارئ شعره ما يدري أيقرأ قصيدة مسطورة، أم يشاهد منظراً من مناظر الوجود، الذي يصف "الوجدانيات"( )
أما أحمد الشايب فقد ربط الصورة بالخيال باعتبار الخيال أساس الصورة الفنية فتركوا الحرية للشاعر في إطلاق خياله دون تقييد " ( )
والصورة الفنية عند العقاد كلٌ متكامل لا انفصال بين أجزائه، وهي تمل بعضها البعض، يقول: إنَّ القصيدة ينبغي أن تكون عملاً فنياً تاماً، يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه، والصُّورة بأجزائها، واللحن والموسيقى بأنغام" ( ).
أما الصورة الفنية عند علي البطل فتقوم على الأسطورة والتشبيه والاستعارة والتضاد والرمز ، وهي تشكل مجموعة من الانفعالات والأحاسيس التي تكمن في قلب الشاعر ، وتعبر عن حالته النفسية ، يقول البطل في ذلك :" يتَّجه البحث نحو دراسة شعرنا القديم في ارتباط صوره الفنيّة بالأساطير والمعتقدات الدينية، والممارسات الشعائرية القديمة، التي كانت المنبع الأول لهذه الصور" ( )
لكنها عند محمد غنيمي هلال تنقل كل ما يعتري الشاعر من انفعالات وأحاسيس بدقة كبيرة إلى قلب المتلقي وعقله "فالصورة هي الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة في معناها الجزئي والكلي" ( )
فالطريقة التي تنظم فيها الألفاظ وتنسق فيها تُخرج الصورة لتعبر عن تجربة الشاعر الحقيقة وإلى هذا يشير عبد القادر القط بقوله: " الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص، ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشِّعرية الكاملة في القصيدة، مستخدماً طاقات اللغة وإمكاناتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والتجانس، وغيرها من وسائل التعبير الفني" ( )