المحسنات البيانية والبديعية والأسلوبية
تعتبر جهود النقاد وإسهاماتهم في النَّص الشعري محركاً أساسياً ، وعاملاً مؤثراً في فهم طبيعة الأدوات البلاغية ، ودورها في عملية التصوير الفني، وقيمتها في تشكيل الصورة الشعرية ، وإظهار أهميتها البلاغية والبيانية ، وكذلك تبين أهمية اللغة والإسلوب في عملية التصوير والأشكال البلاغية والبيانية للصورة .
وقد يستعين الشاعر أو يستعمل هذه الأنماط البلاغية التي يستهلها من التراث البلاغي، ولإبراز شاعريته يضيف عليها ما هو جديد، أو يثري ذلك القديم الذي تنبني عليه.
ومن خلال الاطلاع على شعر شاكر الغزي في ديوانيه نجده استعان بهذه التقنية من تشبيه واستعارة وكناية . إلاَّ أنَّ روح التجديد كانت واضحة عند شاعرنا في محاولة منه لإثراء التصوير البياني التراثي .
المطلب الأول: المحسنات البيانية (التشبيه، الاستعارة، الكناية)
1) الصورة التشبيهية :
نبدأ بالصورة التشبيهية لأنها: أولاً: من أقدم صور البيان ووسائل الخيال وأقربها إلى الفهم والأذهان. ثانياً: لأنها الأكثر في ديوان الشاعر شاكر الغزي.
والصورة التشبيهية حظيت بعناية النّقاد والبلاغيين القدماء وهو سيلة من وسائل تقريب المعنى والايضاح يلجأ إليه الشاعر كشكل تعبيري يعينه على رسم الصورة .
ولابدَّ هنا من التعريف بالصورة التشبيهية كي تتوضح لنا معالمها وحدودها ودورها وبنيتها في شعر شاكر الغزي .
الصورة التشبيهية لغة: هو التمثيل والمماثلة ، يقال شبهت هذا بهذا تشبيهاً ، أي مثَّله به ، والشِّبه و الشَّبَهُ والشبيه: المثل والجمع أشباه، وأشبه الشيء مثله.( )، ونجد في المعاجم العربية تفسير التشبيه والتمثيل على أنهم شيء واحد ، ومن هنا كان التشبيه لغة هو التمثيل.
اصطلاحاً: يرى ابن رشيق القيرواني أنَّ" التشبيه صفة الشيء لما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته، فلو ناسبه مناسبة كلية كان إياه، وبالتالي فوقوع التشبيه إنما هو أبداً على الأعراض لا على الجوهر.( )
والتشبيه هو " علاقة مقارنة تجمع بين طرفين لاتحادهما أو اشتراكهما في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات والأقوال" ( )
يقول شاكر الغزي في ديوانه أتلاشى كظلِّ أبي من قصيدة منفذٌ لضوء :
أُغنيتي
رفرفة جناحين يُحلقانِ بك نحو أحلامِك
تحملُ قلبَكِ نحو عالمٍ لا يُرى
ولا يسكنهُ إلاَّكِ
تلمعُ لك في أعالي السَّماءِ
كنجمةٍ مُشْفقةٍ
لتُنيرَ دربكِ في عتمةِ الخُطى.( )
فالصورة التشبيهية في المقطع السابق صورة مركبة تجمع الأغنية من جهة ، وبين رفرفة الجناحين الذي يخفقان بشكل متسارع ليعلو الطير في السماء وبالتالي حركة الجناحين لا يمكن تحقيقهما بدقة لسرعتهما ، وهذا ما استدعى من الشاعر صورة تشبيهية أخرى أكثر سرعة وتعبيراً عن الصورة التشبيهية الأولى ( كنجمة مشفقة) وهي صورة أكثر دقة للتعبير فالنجمة التي تظهر في الشفق تكونُ مسرعة في مسيرها وهي ترسم وراءها خطاً ينير عتمة هذا الخطى . ونراه في قصيدة أخرى يقول:
أبي:
كفراشةٍ تدلقُ ألوانها
في احتفالات الوهج المُتلظي
كأي أطفالٍ يلعبون بحصى الأنبياء
سأنحتُ لك من حجارة صمتي
مزماراً صائتاً
يبذرُ قمح الفقد على مراياك.( )
الفكرة في هذه الصورة أن الشاعر رسم لوالده صورة بريئة عفوية صادقة ، حيث اعتمد فيها على الصورة التشبيهية ، فكانت صورته في حركاته وعفويته ومشاركاته لتلك الاحتفالات ، كتلك الفراشة التي رغبت بالمشاركة في احتفال أقيم وفيها الشموع والأضواء ، فما كان منها إلا الاندفاع لهذه الشموع وهذه الأضواء، وقد أضرَّت بنفسها في تلك النار ، وهذا ماجناه أباه من تلك المشاركة، وكذلك استدعى صورة أخرى له مكنته من إيضاح الصورة أكثر عندما شبهه بأطفال يعبثون بحصى الأنبياء ، وهذه التفات في الصورة ،فجاءت الصورة التشبيهية مركبة أيضاً.
والملاحظ على تجربة الشاعر شاكر الغزي كثرة التشبيه بمختلف أنواعه ، باعتباره أساس الصورة الفنية ولا يمكن الاستغناء عنها ، لأنَّ العلاقة بين النص والقارئ قائمة على صورة المشابهة ، ومهما كانت الصورة يبقى التشبيه هو المنبع الأصلي الذي تستلهم منه العلاقات التي يتم من خلالها حمل المعنى من واقعه العادي إلى واقعه المتخيل المنتظر.


وجوه من التشبيه في شعر الغزي
إنَّ للتشبیه من حیث إنه فن تصویري، جمالاً وروعة متمثلتین في دقة وحسن تصويره للمعنى وذلك من خلال عدد من النقاط وردت في ديوان الشاعر شاكر الغزي منها:
أ‌) إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه : كقوله من ديوانه أتلاشى كظلِّ أبي:
وهي حالة متقدمة عند الشاعر شاكر الغزي بأن يخرج إلى العلن صورة فنية تشبيهية من دون أن يكون لها انعكاس على العين ، وبالتالي يخرج ما لا تقع عليه العين إلى شيءٍ وقع وحصلَ.
شربوا السجود على ترابٍ عقَّهم
نخبَ الفرات
وكالنوارس فاظوا
كملائكٍ
لبسوا مُسوحَ طفولةٍ بيضاءَ
حين تنابحَ الوُعَّاظُ.( )
ونرى في هذه المقطوعة الشعرية أكثر من تشبيه ( ففيها تشبيه مركب) وكأن الشاعر يهوى هذه التشابيه في شعره ، فهو لا يعدو يقدم لنا صورة فيها تشبيه حتى يتبعها بأخرى وأحياناً بثالثة ، ولذلك كثرت الصور التشبيهية المركبة .
وقد استطاع في هذا التشبيه أن يخرج لنا صورة حقيقة من صورة متخيلة جسدها أمامنا عندما شبه أولئك الذين (شربوا السجود ) وهي حالة متخيلة إلى صورة حقيقية عندما شبههم بالنوارس التي تحوم فوق شط الفرات وهي صورة واقعية حقيقية ، وكذلك شبههم بالملائكة الذين لبسوا ثياب طفولة ( وعادة ما يلبس الطفل أثناء ولادته ثياباً بيضاء) فقد نقلنا من صورة متخيلة إلى صورة حقيقية واقعية .
ب‌) إخراج مالا يعلم بالبديهة إلى ماجرت به
يقول الشاعر من ديوان أتلاشى كظلِّ أبي :
يوماً ستُخبركِ الحقولُ
بأنَّ شقائقُكِ القليلةُ
مالهنَّ منابتُ
أنَّ اليمامات اشتهاك هديلُها
واستدرجتكَ إلى الغصون فواختُ
وعلى الضفاف هناك
ماءُ حكايةٍ
ما بلَّ جُرفَكَ مُوجُها المتفاوتِ
فأصبحت ظنونكَ في الطريق
ولا تثق بالموج
زُرقتُهُ سوادٌ بائتٌ. ( )
فهذه الغيبية اتي رأيناها في مقطوعته الشعرية أضفت على الحالة التشبيهية غنىً وثراءً، مما أعطى الصورة التشبيهية قيمة أخرى أبعدتها عن التشبيه التقليدي المعروف ، كيف لا؟ وقد نقلنا من عالم الغيب المجهول الذي لا يمكن لأحد أن يتنبأ به ، (يوماً) فهو تركه لنا بصيغة النكرة ، أي أطلق لنا الفضاء واسعاً لمعرفته ، ولكننا لم نستطع لأسباب كثيرة ، لكن هذا اليوم قادم لامحالة ليخبرنا وتخبرنا الحقول بما جرى وبما خبأ الزمان لنا وبأنَّ على الضفاف حكاية ننتظرها .
ت‌) إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ماله قوة في الصفة
وهذه الظاهرة نجدها في شعر شاكر الغزي متكررة ، ويقدمها بإسلوب شيِّق، يلفت نظر القارئ، ويجعله منسجماً مع الفكرة والصورة بالرغم من صعوبة تركيبها ، يقول الغزي في ديوانه أتلاشى كظلِّ أبي :
فافتح زجاجة آهاتي
اسكبها بعيداً
مَرَّ في حَلْقي جنا أعنابكْ
وافتح لي الباب المُخيبرَ
لا عليَّ معي
ومنذُ متى ألوذُ ببابك ( )
ث‌) إخراج الكلام بالتشبيه مخرج الإنكار
وهي من الصور الجميلة في الشعر العربي الحديث ، قدَّمها لنا الغزي بطريقته السلسة البسيطة يقول:
ماكنتُ أوَّلَ منفيٍّ
غيابتُهُ منفاهُ
كم من نبيٍّ حظُّهُ جُبُّ( )
فهذا التشبيه الإنكاري قد صور حال نفيه من موطنه ، كحال الأنبياء الذين كان حظهم النفي في غيابت الجبِّ وفي هذا إشارة لنبي الله يوسف عليه السلام . وهي من الصور الجميلة التي يتداولها الشعراء في قصائدهم معبرين بها عن مشاعرهم ، ولكن عند شاكر الغزي جاءت لتعبر عن الغربة .
اغراض التشبيه في شعر الغزي
عادة ما يلجأ الشاعر إلى أسلوب التشبيه لأنَّه أكثر من غيره قدرة على إيصال المعنى ووضوح الدلالة علماً أنَّ أغراض التشبيه متعددة ومتنوعة منها ما يعود إلى المشبه ، ومنها ما يعود إلى المشبه به لقد حقق الشاعر الغزي في استخدامه التشبيه عدداً من الأغراض منها :
بيان حاله:
وهنا يكون المشبه غير معروف الصفة قبل التشبيه، فيفيد التشبيه الوصف( )، أي أنّ المشبه هنا يكون غير واضح فيأتي المشبه به ويبين حاله بوصفه ليتضح للمخاطب، كقول الشاعر الغزي :
إذا قلتُ : ياشيطانتي
فرطَ نشوتي
وفرطَ غواياتٍ بها تتلبَّسُ
بسبَّابةِ المعنى عزازيلُ قال لي:
ألا أنَّها منّي - وربِّكَ- أبلسُ( )
وفي موطن آخر يقول شاكر الغزي :
والرُّعب
يركضُ مثل الماءِ خلفهما
وخلفهُ فتيةٌ ماضون
كالقدر ( )
وهو هنا يعبر حالة المشبه غير معروف الصفة قبل التشبيه ، ولكنه عندما شبهه بالقدر اتضحت صورته للمخاطب.
بيان إمكان حاله:
وذلك حين يسند إلى المشبه أمرٌ مستغربٌ لا تزول غرابتهُ إلاَّ بذكرِ شبيه له.( ). وذلك بإسناد أمر إلى المشبه ويكون ذلك الأمر غريباً ولا يفك ذلك الاستغراب حتى يذكر شبيهاً له يوضحه ،يقول الشاعر:
كانوا يطلُّون من أعلى حدائقهم
على رُميلاتها إطلالةَ القمرِ( )
لقد شبه الشاعر الإطلالة العالية من أعلى الحدائق على تلك الرُّميلات البسيطة، والتي كانت مسار جدل وترقب عما تعنيه هذه الإطلالة ، وهدفها ، ودلالتها، وهذا ما استوقف القارئ يجول في خاطره عن ماهية هذه الإطلالة، ولكن قبل أن يأخذ القارئ تفكيره بعيدا كانت الشاعر يفك تلك الشيفرة الغريبة بذكر المشبه به(إطلالة القمر) بإطلالة القمر الساحرة، وهنا العودة الهانئة والمطمئنة للنفس ، لان إطلالة القمر هي إطلالة محبٍّ ، وغيور، وإطلالة فيها التفاؤل والمحبة .
بيان مقدار حال المشبه :
مقدار حاله في القوة والضعف، والزيادة والنقصان، وذلك إن كان المشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية ، ثم يأتي التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة .( )
فإذا كان المشبه معروف الصفة يأتي المشبه به لبيان مقدار هذه الصفة سواء كانت في القوة أو الضعف، أو الزيادة أو النقصان ...الخ، يقول شاكر الغزي:
ما عاتبوه على عيدٍ يمرُّ بلا
حلوى...
ولا لخفايا بؤسهم فضحوا.( )
فالتشبيه هنا يعبر عن حالة الفقر الكبيرة التي اتضحت من خلال العيد، العيد الذي لا يمكن لهم أن يحضروا الحلوى بسبب فقرهم الشديد ، ولكن هذا الفقر زاد قوة أكثر عندما لم يفضحوا أمرهم وحال فقرهم المأساوي عندما ذكر المشبه به (البؤس) والذي هو أشدُّ من الفقر ، وهذا ما بيَّن مقدار حال المشبه.

2) الصورة الاستعارية:
لم ترق الاستعارة إلى المرتبة التي حظي بها التشبيه، رغم أنَّ النقاد كانوا يعقدون الرباط وثيقاً بين التشبيه والاستعارة ، إلاَّ أنهم يجعلون التشبيه هو الأصل، وهذا ما أكده عبد القاهر الجرجاني في قوله:" أعلم أن الاستعارة تعتمد على التشبيه أبداً" ( )
وتعد الاستعارة عاملاً رئيساً في الحفز والحث ،وأداة تعبيرية ، ومصدراً للترادف وتعدد المعنى ومتنفساً للعواطف والمشاعر الحادة ، لأنها تنتج أنواعاً من الاستعمالات اللغوية باعتبارها متنفساً للعواطف الحادة .وإن المظهر الأساسي للاستعارة هو دعوة القارئ إلى اكتشاف أنواع معينة من ترابؕ الأفكار وتداعيها .
لقد استطاعت الاستعارة عبر الآداب الإنسانية أن تخلق إشعاعاً وجدانياً ومعادلاً موضوعياً بفضل استجابة الشعراء لتجاربهم الشعورية وبفضل الخيال، ذلك أن هذا اللون البياني يتصل بأنفس الشعراء كل الصلة كما يتصل بمحيطهم .
ولابدَّ هنا من التعريف بالصورة الاستعارية كي تتوضح لنا معالمها وحدودها ودورها وبنيتها في شعر شاكر الغزي.
الصورة الاستعارية لغة: تعرف الاستعارة في اللغة بأنها " العارية والعارة : ما تداولوه بينهم، وقد أعاره الشيء وأعاره منه وعاوره إياه، والتعاور : شبه المداولة والتداول في الشيء يكون بين اثنين
،واستعاره :الشيء واستعاره منه : طلب منه أن يعيره إياه"( )
واستعار ثوبا فأعاره إياه قيل في قوله مستعار قولان :أحدهما أنه استعير فأسرع العمل به مبادرة لارتجاع صاحبه إياه، والثاني اعتورناه وتعاورناه بمعنى واحد وقيل :مستعار بمعنى متعارف أي متداول.( )
الاستعارة اصطلاحاً:
عرّفها المراغي بأنها: " تشبيه حُذف أحد طرفيه وأداته ووجه الشبه، لكنَّها أبلغ منه لأنّنا مهما بلغنا في التشبيه فلابدّ من ذكر الطرفين، وهذا دليل على عدم امتزاج المشبه والمشبه به صارا شيئاً واحداً، يصدق عليها لفظ واحد مع وجود قرينة قائمة بينهما" ( )
وحددها عبد القاهر الجرجاني قائلاً: "أن الاستعارة في الجملة يكون للفظ الأصل الوضع اللغوي المعروف تدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع، ثم يستعلمه الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل وينقله إليه نقلاً غير لازماً ، فيكون هناك كالعارية". ( )
والاستعارة في ديوان الشاعر شاكر الغزي من الوسائل المهمة التي وظفها في تصوير مشاعره وأفكاره بأدق التفاصيل، لأن الشاعر كان يجد في الاستعارة طريقاً جديداً يجسم فيه ما في نفسه من إحساس، ويتحول بها كذلك وجدانه المتنامي والمتفاعل مع الحياة" ( )
يقول الشاعر شاكر الغزي:
ما ينسخُ الدَّهرُ من آياته حسداً
إلاَّ تجذَّرَ نقشاً ليس ينمسحُ
فقد شبَّه الدَّهر بالكاتب التي يمتهن حرفة النسخ حف المشبه به وهو الكاتب وأبقى شيئاً من لوازمه وهو النسخ على سبيل الاستعارة ، وكذلك في الشطر الثاني عندما شبه الخطوط التي ترسم من قبل الناسخ بالشجر الذي تتغلغل جذوره في التربية وتأخذ أبعاداً وتشعبات حذف المشبه يه الشجرة وأبقى شيئاً من لوازمه وهو الجذر .
والتعبير الاستعاري قد يقوم على درجة من درجات التقمص الوجداني، تمتد فيه مشاعر الشاعر إلى كائنات الحياة من حوله فيلتحم بها ويتأملها كما لو كانت هي ذاته . يقول شاكر الغزي:
أسمرٌ - سرُّ من رآهُ - كقمحٍ
بين عينيهِ تستريحُ الحقولُ ( )
هذه الحالة الوجدانية التي أرخت بظلالها على الشاعر في هذا البيت، جعلت منها لوحة التحم فيها المشبه بالمشبه به، وأعطت صورة فنية رائعة قوامها الاستعارة .
كما أنها تسعى إلى القيمة الجمالية حيث كلما زاد التشبيه خفاء وغموض ازداد المعنى حسناً وجمالاً
يقول شاكر الغزي:
مثقلٌ
إن طاف النُّعاسُ عيوناً متعباتٍ
قال: استخفُّوا... وقِيلوا
فيصلّي كما نُصلّي....
ولكن التماثيل دمعها لا يسيلُ
ينحتُ الليلَ سجدتين
ويدري أن معراج قلبهِ الإزميلُ
كمٌّ هائلٌ من الصور الاستعارية المتراكمة في هذه المقطوعة جعل منها حديقة مليئة بالاستعارات المتنوعة ، مما أضفى عليها قيمة جمالية غير معهودة ، وقد برزت فيا مقدرة الشاعر اللغوية وثقافته الفكرية وموروثه الفكري حتى استطاع توظيف هذا الكم في هذه المقطوعة القصيرة.
لقد اتسمت الاستعارة في شعر شاكر الغزي بالكشف عن الدلالات الخفية، وكشف العلاقات بين الاستعارة والعالم الخارجي .
وتنوعت الاستعارة في شعر شاكر الغزي كغيره من الشعراء ، ولكننا نجدها بكثرة في دواوينه، حيث عكس من خلال حضورها الكثيف ثقافته وموروثه الفكري، وقدرته على الإبداع من خلال خلق صور جديدة مبتكرة ، ولذلك تعددت تقسيماتها إلى :
أ‌) الاستعارة من حيث ذكر الطرفين.
استعارة تصريحية : وهي ماصُرِّحَ فيها بلفظ المستعار منه ،كقول الشاعر الغزي:
يأتي ...
وساقية الغفران تسبقه
لتغتسل الليل من تنهيدة السَّهر.( )
وفيي موطن آخر يقول:
أبا اليقظان: تأرقُ ... لا تنامُ أجل... فعلى يديك غفا اليمامُ
فــــــــــــــأنتَ قـــــــــلادةٌ لــــــرؤى عليِّ وعينُ يقينكَ السِّــــــــلكُ النظام( )
وفي موطن آخر يقول:
أدري
بأنَّكَ زنبقٌ متفتِّقٌ بالعطرِ
في شمِّ النسيمِ يُكافأُ ( )
وفي ديوانه أتلاشى كظلُّ أبي في قصيدته رقصات الديك المذبوح يقول:
أنا نادلُ الأوجاعِ
وهي عشيقتي
قد أستأجرتْ قلبي لتسكنَ فندقا( )
استعارة مكنية: وهي ما حذف فيها المشبه به ورمز إليه بشيئ من لوازمه ، يقول شاكر الغزي:
وطفلكَ يكبرُ ... اعتصرت يداهُ نبيذاً.... دونهُ انتبذَ المُدامُ( )
وفي موطن آخر يقول شاكر الغزي:
خلفَ بابِ القصيدةِ
كانَ الكلامُ شحيحاً
وكانَ الغرابُ يرتِّلُ سِفرَ المواراةِ
والليلُ ينعبُ
كالببغاءِ يردِّدُ خلف الغراب
جلالُ
ستمنحك الأرضُ من بركات النخيل
كثيراً من المجد والكبرياء.( )
ب‌) الاستعارة من حيث الاشتقاق والجمود.
استعارة أصلية: وهو أن يكون المستعار اسماً جنساً كقمر وامرأة وضحك ووجه، يقول من قصيدة له:
فيا طفلة القلب:
مُرِّي على جبهتي
إنَّ بي شغفاً يهدِلُ
لك الآن وجهي عميم الرماد
وغيماً بكلِّ الاسى يهطلُ ( )
وفي قصيدة إخفاقات من ديوان أتلاشى كظلِّ أبي يقول:
تعالي معي
أخفقَ الليلُ
حينَ استعارَ لعينيكِ حِلكتهُ
باهتاً لونُهُ كان....( )
استعارة تبعية: إذا كان المستعار فيها اسما مشتقاً أو فعلاً أو اسم فعل، أو اسم مبهم فسميت بالتبعية يقول الشاعر:
فكوني هديل الصَّحو
كوني يمامةً
إذا شرب الصُّبحُ الطفوليَّ غاسق
أحبُّكِ
يا أحلى حروفٍ رسمتُها
ويا اسمكِ أشهى ما لساني ناطقُ
أُحبُّكِ
والقمحُ المدلَّلُ ثوبُنا
لعلَّ اسمراري باسمراركِ لائقُ( )
نلاحظُ فيها عددا من الاستعارات التبعية ، ففي كل مقطع استعارة تبعية أعطت مدلولاً مميزاً، وأدت هدفاً مختلفاً عن الآخر .
ت‌) الاستعارة باعتبار الملائم .
الاستعارة المرشحة : هي التي يذكر في الجملة ما يلائم المستعار منه ، يقول:
لنا في بابك القُزحيِّ مكثٌ
إذا همْ
عند باب سواكَ حطَّوا( )
الاستعارة المجردة : وهي ما ذكر فيها ما يناسب المشبه. كقوله في ديوانه الآتون من الحديقة الحمراء:
تقمَّصَ الحِلمَ
لم يخلع عباءتهُ
تهرَّأ الدَّهرُ غيظاً
وهو ما اهترأ
يُراودُ الليلَ عن أفياء لذَّتهِ
وهنَّ بوحٌ إلهيٌّ به امتلأ( )
الاستعارة المطلقة: هي التي تخلو من ملائمات المستعار منه (المشبه به) والمستعار له( المشبه) وتقتصر على ذكر القرينة فقط يقول:
خرجتْ ومعولُ حزنها
في الخدِّ يحرثُ ذاهلاً ترنيمةَ الأمِّ الحزينة
رفعت يديها بابتهال
تسألُ القُدُّوس أن يرضى
فعتباهُ القرابينُ السمينة( )
ث‌) الاستعارة التمثيلية: هي جملة أو تركيب استخدم في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، وتكثر في الأمثال السائرة، كأن تستعير مثلًا في الأمثال من قصتها الأصلية إلى موقف جديد يشبه الموقف الأصلي. الأمثال تُستعار بلفظها دون تغيير، فيُخاطَب بها المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد. يقول:
" مما أضرَّ بأهل" حُبِّكَ أنَّهم
في الأرض ما وجدوا لحبكَ موطنا( )
والأصل في الشطر الأول مأخوذ عن المتنبي " مما أضرَّ بأهل العشق"
ويقول أيضاً:
لولا بهاؤكَ ما ذخرتُ قصائدي
فدفاترُ" الشعراء بئس المقتنى"( )
وهي تناص مع بيت المتنبي أيضاً
وَمَكايِدُ السُفَهاءِ واقِعَةٌ بِهِم وَعَداوَةُ الشُعَراءِ بِئسَ المُقتَنى
3) الصورة الكنائية:
يعتبر التصوير جوهر الشعر منذ القديم، حيث كانت الصورة مادة الشعر الأولية ، حتى انَّ القدماء " أجمعوا على أنَّ الكناية أبلغ من الإفصاح ، والتعريض أوقع من التصريح ، وأنَّ للاستعارة مزية وفضلاً، وأنَّ المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة"( )
الكناية لغة: " كَنِيَ كنَّى به عن كذا يكنّي، ويكنو كِناية تكلم بما يستدلُ به عليه أو أن تتكلَّم بشيء ، وأنت تريد غيره، أو بلفظ يجاذبه جانباً حقيقة ومجازاً" ( )
وهذا التعريف يكشف عن ماهية الكناية في دلالتها اللغوية، وهي الستر والخفاء وترك التصريح بالمعنى، فالمعنى الأساسي الذي يحمله لفظ كناية: هو ترك التصريح بالدلالات المتوارية وراء الألفاظ ، فالمتكلم" الذي يتفادى التصريح ويُقبل على التلميح يبتدعُ الكناية، ويراهن في الآن ذاته على ذكاء وفطنة ويقظة المتلقي، وحدة ذهنه وسرعة فهمه لدلالات الكناية الباطنية المختفية وراء دلالتها الظاهرة" ( )
الكناية اصطلاحاً: هي اللفظ الدَّال على الشيء بغير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه وهذا فيه تفسير الشيء بنفسه، وإحالة أحد المجهولين على الآخر. سنقتصر على تعريف واحد مخافة الإطالة.
والكناية إحدى مباحث علم البیان المهمة ، لأَنَّه یعطي الحقیقة مصحوبةً بالدلیل والبرهان فاستعمل شاعرنا الكنایة في قصائده، وخصائص الكنایة الإيجاز ، لأنها قصیرة الأَلفاظ غزیرة المعاني ، واستخراج الكنایات من شعر شاعرنا یحتاج من الدارس إِلى كدٍ في الذهن والتعمق في المعنى في الغالب الاَعم ، فالكنایة عنده موجودة في جمیع أَغراضه الشعریة ، وتمیزت بعض كنایاته بالسهولة والوضوح ، وبعضها بالغموض ، فالكنایة عنده تعبیر عن الحالة النفسیة التي یعیشها.
الكنایة :من المباحث المهمة في علم البیان ، لا یستغنى عنه أدیب أو عالم لغوي ، أَو غیر ذلك من
المختصین في اللغة . لذلك استخدمها الشاعر في كثیر من أشعاره للتعبیر عما بدواخله ، وتنقسم الكناية عنده كغيره من الشعراء :
كناية عن صفة: وتعرف كناية الصفة بذكر الموصوف — ملفوظًا أو ملحوظًا — من سياق الكلام .وهي نوعان:
أ‌) كناية قريبة: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بغير واسطة بين المعنى المنتقل عنه والمعنى المنتقل إليه يقول:
وأطلَّ من أقصى الغواية
كاتماً إيمانهُ
في مشيه يتباطأُ ( )
كناية عن رجلٍ من آل عمران يكتمُ إيمانه إلى أبي طالب عليه السلام.
ب‌) كناية بعيدة: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بواسطة أو بوسائط. يقول:
ورأيتُ عينَ الله
عينَ يتيمهِ
تبكي...وإصبعهُ لدمعكَ راقئُ( )
وهنا كناية عن الحقيقة التي رأها بأم عينه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وهي حقيقة الدعوة الإسلامية التي أُوحيت له ، ويقال : هي عين زمزم وفيها قصة .( )
كناية عن موصوف: وتُعرف بذكر الصفة مباشرة أو ملازمة ويكون إمَّا:
أ‌) بمعنى واحد: كقول الشاعر:
هزِّي بجذعِ الهمِّ يسقطُ مثلهُ
لا ظللتكِ سواؤه أشجار( )
وهي كناية عن سيدتنا مريم بنت عمران عليها السلام عندما آوت إلى جذع النخلة وكلهما الله تعالى بقوله : (وَهُزِّىٓ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَٰقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا))( )
و كقوله في موطن آخر :
تَسِمُ الحروفَ
على" قفا نبك" استطلنَ
ولم يطُلْ فلكَ الكناية ناشئُ( )
وهنا كناية عن امرئ القيس في بيته : " قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل". ويقول في موطن آخر:
أرخى عباءتَهُ على قمحِ السَّما
فسنابلُ اخضرَّت
وأمرع شاطئُ( )
وفي نفس القصيدة يقول:
لن يقتلوكَ
وفيَّ ينبضُ هاشمٌ
" فانفذ لأمرك"
والرِّقابُ مواطئُ( )
كناية عن أبي طالب الذي أبى إلاَّ نصرة" محمد صلى الله عليه وآله وسلم " يقول:
والله لن يصلوا إليكَ بجمعهم حتى أوســــــــــــدَ في التراب دفينا
فانفذ لأمركَ ما عليك مخافة وابشر وقر بذاكَ منه عيونا( )
ب‌) مجموعة معانٍ: ويشترط في هذه الكناية أن تكون الصفة أو الصفات مختصة بالموصوف، ولا تتعداه؛ ليحصل الانتقال منها إليه. كقول الشاعر:
أدريكِ يا تفاحةَ المعراجِ
نهراً كوثرياً..
ماؤه أنوارُ( )
ويقول في موطن ثاني :
تظمى ...
وماؤكَ مثل ريقكَ سُكَّرٌ
يروي وجوهاً ماؤها يتلهَّبُ( )
ويقول في موطن آخر
ما الحبُّ إلاَّ بسمتان
وأعينٌ ملهوفة
وأصابعٌ تتشابك( )
كناية عن نسبة: الكناية التي يراد بها نسبة أمر لآخر — إثباتًا أو نفيًا — فيكون المكني عنه نسبة، أُسندت إلى ما له اتصال به، والكناية المطلوب بها نسبة:
أ‌) إما أن يكون ذو النسبة مذكوراً فيها : يقول:
يا راهبَ الكلمات البيضِ
يا لغةً
لغير روعة وجه الله لم تصف
ويا اصفرارَ خشوعٍ
لم يجدْ ولهاً
لقدسِ ذكراهُ
لون الروحِ ينخطفُ( )
ب‌) وإما أن يكون ذو النسبة غير مذكور فيها ، يقول:
علامي
كلَّما ارتكبت شفاهي دعاءً
كنت أصرخُ:
(بس تعالوا) ( )
وهنا ينفي صفة الخبرية عن شفاهه التي لم ترتكب الدعاء.
فالكناية فن بلاغي ثريٌّ بالتعبيرات البيانية والمزايا البلاغية ، إنها تضفي على المعنى جمالاً وتزيده قوة وتتحقق بها مقاصد وأهداف بلاغية فريدة منها:
أ‌) إفادة المبالغة في المعنى : لأن التعبير بالكناية تعطي القوة والتأكيد ما ليس في التعبير عنه باللفظ الموضوع له، يقول في ديوانه أتلاشى كظلِّ أبي:
هو صائدُ البيضِ الشواردِ
لم تنمْ عينا سواهُ
وكلَّهن بأسرهِ( )
كناية عن القوة والفروسية ، وكناية عن مهارته في الصيد( صيد البيض الشوارد)
هو أحمد الشعراء
ما حُمدتْ نبوءة شاعرٍ
لم يقتبس من جمرهِ( )
كناية عن نبوغه في الشعر وبلاغة ، وعن المرتبة المتقدمة له في درجات الشعر ،والشعراء له لاحقون .
ب‌) تجسيد المعاني: وإبرازها في صورة محسومة تزخر بالحياة ، يقول:
تململ....حيث صاحبهُ حباه فـــــــــــــــــؤادٌ مـــــــــــــا يسليه المنامُ
وكان على تململـــــــهِ يصــــــــــــــــــــلّي سعيداً ..كلما عبس الظلامُ
ت‌) تقدم الحقائق مقرونة بدليلها: وذلك أدعى إلى تصديقها وثباتها في النفس يقول:
أرى انتشائي من سُكرٍ
يُدثِّرني به تُرابُ عليٍّ
حين اصطبحُ( )
ث‌) تتيح لنا التعبير عما نكره أو يستقبح. يقول:
همَّت به... ومعاذَ اللهِ همَّ بها
لم ينتظرْ أن لبُرهانِ السماء رأى ( )